فصل: قال ابن عادل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا الوجه فيه ضعف من وجوه:
الأول: أن الفاعل المنوب عنه صار نَسْيًا مَنْسيًا غير ملتفت إليه، نَصُّوا على ذلك، لو قلت: أنزل الغيث مجيبًا لدعائهم، وتجعل مجيبًا حال من الفاعل المنوب عنه؛ فإن التقدير: أنزل الله الغيث حال إجابته لدعائهم، لم يجز، فكذلك هذا، ولاسيما إذا قيل: بأن بنية الفعل المبني للمفعول بنية مستقلة غير محلولة من بنية مبنية للفاعل كما هو قول الكوفيين، وجماعة من البصريين.
الثاني: أنه يلزم منه التقييد بهذه الحال إذا عُني بالأنعام الثمانية الأزواج، وتقييد إحلاله تعالى لهم هذه الثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم والله تعالى قد أحل لهم هذه مطلقًا.
الثالث: أنه كتب {مُحلّي} بصيغة الجمع، فكيف يكون حالًا من الله تعالى، وكأن هذا القائل زعم أن اللفظ محل من غير ياء، وسيأتي ما يشبه هذا القول.
الوجه الخامس: أنه منصوب على الاستثناء المكرر، يعني أنه هو وقوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} مستثنيان من شيء واحد، وهو بهيمة الأنعام.
نقل ذلك بعضهم عن البصريين، قال: والتقدير: إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد، وأنتم محرمون، بخلاف قوله تعالى: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} [الذاريات: 32] على ما سيأتي بيانه.
قال هذا القائل: ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام؛ لأنه مستثنى من الإباحة، وهذا وجه ساقط، فإذًا معناه: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلِّي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد. انتهى.
وقال أبو حيان: إنما عرض الإشكال من جعلهم غير محلّي الصيد حالًا من المأمورين بإيفاء العقود، أو من المحلّل وهو الله تعالى، أو من المتلو عليهم وغرَّهم في ذلك كونه كتب {مُحِلِّي} بالياء، وقدروه هم أنه اسم فاعل من «أحَلَّ» وأنه مضاف إلى {الصيد} إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة، وأصله غير محلِّين الصيد، إلا في قول من جعله حالًا من الفعل المحذوف، فإنه لا يقدر حذف نون، بل حذف تنوين، وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله: {مُحِلِّي الصيد} من باب قولهم: حِسَان النِّسَاء، والمعنى: النساء الحسان، فكذلك هذا أصله غير الصيد المُحلّ، والمحل صفة للصيد لا للناس، ولا للفاعل المحذوف.
ووصف الصيد أنه محل على وجهين:
أحدهما: أن يكون معناه دخل في الحل، كما تقول: أحَلَّ الرجل إذا دخل في الحِلِّ، وأحرم إذا دخل في الحرمِ.
والوجه الثاني: أن يكون معناه صار ذا حلٍّ أي: حلالًا بتحليل الله تعالى، وذلك أن الصيد على قسمين: حلال وحرام.
ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال، لكنه يختصُّ به شرعًا، وقد تجوزت العرب، فأطلقت الصيد على ما لا يُوصَفُ بحلّ ولا حُرْمة.
كقوله: [البسيط]
لَيْثٌ بِعَثَّرَ يَصْطَادُ الرِّجَالَ إذَا ** مَا اللَّيْثُ كَذَّبَ عَنْ أقْرَانِهِ صَدَقَا

وقول الآخر: [الطويل]
وَقَدْ ذَهَبَتْ سَلْمَى بِعَقْلِكَ كُلِّهِ ** فَهَلْ غَيْرُ صَيْدٍ أحْرَزَتْهُ حَبَائِلُهْ

وقول امرئ القيس: [المتقارب]
وَهِرٌّ تَصِيدُ قُلُوبِ الرِّجَالِ ** وَأفْلَتَ مِنْهَا ابْنُ عمْرٍو حُجُرْ

ومجيءُ «أفْعَلَ» على الوجهين المذكورين كثيرٌ في لِسَانِ العربِ، فَمِنْ مجيءِ «أفْعَلَ» لبلوغ المكان، ودخوله قولُهم: أحْرَم الرجلُ، وأعْرَقَ، وأشْأمَ، وأيْمَنَ، وأتهم، وأنْجَدَ، إذا بلغ هذه الأماكنَ، وحَلَّ بها.
ومن مَجِيء «أفْعَل» بمعنى صار ذا كذا قولُهُمْ: أعْشَبَتِ الأرضُ وأبْقَلَتْ، وأغَدَّ البعير وألْبَنَتِ الشاة، وغيرُها، وأجْرَتِ الكلبُ، وأصْرَمَ النخل، وأتْلَتِ الناقةُ، وأحْصَدَ الزرعُ وأجْرَبَ الرجلُ، وأنْجبتِ المرأةُ.
وإذا تَقَرَّرَ أنَّ الصيدَ بوَصْفٍ بكونه مُحلًا باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ أو صار ذا حِلٍّ، اتَّضَحَ كَوْنُهُ استثناءً ثانيًا، ولا يكون استثناءً من استثناء؛ إذ لا يمكنُ ذلك لتناقضِ الحُكْم؛ لأنَّ المستثنى من المحلل مُحرَّمٌ، والمستثنى من المحرم محلل بل إنْ كان المعني بقوله: بهيمةَ الأنعامِ الأنعام أنفسها، فيكون استثناءً منقطعًا وإنْ كان المرادُ الظِّبَاءَ، وبَقَر الوحْشِ وحُمُرَهُ، فيكون استثناءً متصلًا على أحد تَفْسِيري المحل، استثنى الصَّيدَ الذي بلغ الحلّ في حالِ كونِهِم، مُحْرِمينَ.
فإنْ قُلْتَ: ما فائدةُ هذا الاستثناء بَعْد بُلُوغِ الحل، والصيدُ الذي في الحرم لا يحلّ أيضًا؟
قُلْتُ: الصيدُ الذي في الحرمِ لا يَحِلُّ للمحرم ولا لِغَيْر المحْرِمِ، وإنَّما يحَلّ لِغَيْرِ المحرِمِ الصيدُ الذي في الحلّ، فنبَّهَ بأنَّهُ إذَا كَان الصيدُ الذي في الحّل يَحْرمُ على المُحْرم- وإنْ كان حَلالًا لِغَيْرِه- فأحْرَى أن يحرم عليه الصيدُ الذي هو بالحَرَمِ، وعلى هذا التفسير يكون قوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} إنْ كان المرادُ بِهِ ما جاء بعده مِنْ قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] الآية استثناءً منقطعًا؛ إذْ لا تختصُّ الميْتَةُ وما ذُكِر معها بالظِّبَاءِ، وبقرِ الوحشِ وحُمُرِه، فيَصيرُ التقديرُ: لكِنْ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ أي: تحريمُهُ فهو مُحرَّمٌ وإنْ كانَ المُرادُ ببهيمة الأنْعامِ الأنعام والوحوش، فيكون الاستثناءانِ راجعيْن إلى المجموع على التَّفْصِيلِ، فيَرْجِع {مَا يتلى عَلَيْكُمْ} إلى {ثَمَانِيَة} الأزْوَاجِ، ويرجِعُ {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد} إلى الوحوشِ؛ إذْ لا يمكنُ أنْ يكون الثَّانِي استثناءً من الاستثناءِ الأوَّلِ، وإذا لم يمكنْ ذلك، وأمْكَنَ رُجُوعُهُ إلى الأوّلِ بوجهٍ ما رجع إلى الأولِ.
وقد نَصَّ النحويونَ: أنَّه إذا لَمْ يمكنْ استثناء بَعْضِ المستثنيات مِنْ بَعْض جُعِل الكُلّ مُسْتثنى من الأوَّل، نحو: قام القومُ إلا زيدًا إلا عمْرًا إلا بَكْرًا، فإن قلت ما ذكرته من هذا التخريجِ الغريبِ، وهو كونُ المحلّ مِنْ صفة الصَّيْدِ، لا مِنْ صِفَة النّاسِ، ولا مِنْ صِفَة الفاعلِ المحذوفِ يَأبَاهُ رَسْمُهُ في المصْحَف {محلّي} بالياء، ولو كان مِنْ صِفَةِ الصَّيدِ دُونَ الناسِ لكُتبَ «مُحِلّ» من غير ياءٍ، وكون القُرَّاءِ وَقَفُوا عليه بالياء أيضًا يأبى ذلك.
قلتُ: لا يعكّر ذلك على هذا التخريج؛ لأنَّهم قَدْ رَسَمُوا في المصحفِ الكريمِ أشياء تخالِفُ النُّطْقَ بها ككتابتهم: {لأَاْذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21]، {وَلأَوْضَعُواْ} [التوبة: 47]، ألفًا بَعْد لامِ الألف وكتابتهم {بِأَيْيْدٍ} [الذاريات: 47] بياءين بعد الهمزة وكتابتهم «أولئك» بزيادة واوِ ونَقْصِ ألف بَعْدَ اللاَّمِ، وكِتَابتِهِمْ: «الصَّالِحَاتِ» ونحوه بسُقُوطِ العَيْن إلى غير ذلك.
وأمَّا وقْفُهم عليه بالياء فلا يجُوزُ؛ إذْ لا يُوقَفُ على المضافِ دُونَ المضافِ إليه.
وإنْ وقف واقفٌ فإنَّما يكونُ بقَطْعِ نَفَسِ واختيار.
على أنَّه يمكنُ تَوْجِبهُ كتابتِهِ بالياء والوقفِ عَلَيْه بها، وهو أن لُغَةَ «الأزْد» يَقفونَ فيها على «بزيدٍ، بزيدي» بإبدال التَّنْوين ياءً، فَكُتِبَ {مُحِلّي} على الوقف على هذه اللُّغَةِ- بالياءِ، وهذا توجيه شُذُوذٍ رَسْمِيّ، ورسمُ المصحفِ ممّا لا يقاسُ عليه، انتهى.
قال شهابُ الدين: وهذا الذي ذَكَرَهُ، وأجازه، وغَلَّطَ النَّاسَ فيه لَيْسَ بشيء، وما ذكره من تَوجيه ثُبُوتِ الياءِ خَطًّا ووَقْفًا، فَخَطَأٌ محض؛ لأنه على تقدير تَسْلِيم ذلك في تلك اللُّغَةِ، فأيْنَ التنوينُ الذي في «مُحِلّ»؟ وكيف يكونُ فيه تنوينٌ، وهو مضافٌ حَتّى يقول: إنَّه قد يُوجَّهُ بلُغَةِ «الأزْدِ»؟
وما ذكره مِنْ كونه يَحْتَمِلُ مِمَّا يكونون قَدْ كتبوه كما كتبوا تلك الأمثلة المذكورة، فَشَيءٌ لا يُعَوَّلُ عليه؛ لأنّ خَطّ المصحفِ سُنَّة متبعة لا يقاسُ عليها، فكيفَ يقول: يحتمل أن يقاسَ هذا على تلك الأشياء؟
وأيضًا فإنهم لم يُعْرِبُوا [غَيْر] إلاَّ حالًا، حتّى نقل بعضُهم الإجْماعَ على ذلك.
وإنما اختلفُوا في صاحِبِ الحالِ، فقوله: إنه استثناءٌ ثانٍ مع هذه الأوجه الضَّعيفةِ خَرْقٌ للإجماع إلا ما تقدَّم نقْلُهُ عن بعضهِم منْ أنَّه استثناءٌ ثانٍ، وعَزَاهُ للبصريين، لكِنْ لا على هذا المَدْرَكِ الذي ذكره الشيخ.
وقديمًا وحديثًا اسْتَشْكَلَ النَّاسُ هذه الآية.
وقال ابن عَطِيَّة: وقد خلطَ الناسُ في هذا الموضع في نصب {غَيْرَ} وقدَّرُوا تَقْدِيماتٍ وتَأخِيراتٍ، وذلك كُلُّه غيرُ مُرضٍ؛ لأنَّ الكلام على اطّرادِهِ، فيمكنُ اسْتِثْناء بعد استثناءٍ.
وهذه الآيةُ مِمّا اتضحَ لِلْفُصَحاء والبُلغَاءِ فَصَاحَتُها وبلاغَتُها، حتى يُحكَى أنَّهُ قِيلَ لِلْكنديّ: أيّها الحكيمُ، اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هذا القرآنِ، فقال: نَعَمْ أعمل لَكُمْ مِثْلَ بعضه، فَاحْتَجَبَ أيَّامًا كثيرةً، ثُمّ خرج فقال: والله لا يَقْدِرُ أحدٌ على ذلك، إنّني فتحتُ سورة من المصحف فخرجتْ سورةُ «المائدة»، فإذا هو قَدْ نَطَقَ بالوَفَاءِ، ونَهَى عن النّكثِ، وحَلَّل تَحْلِيلًا عامًّا، ثم اسْتَثْنَى استثناءً بعد استثناءٍ، ثُمَّ أخبر عَنْ قُدْرتِهِ وحِكْمته في سَطْريْنِ.
والجمهورُ على نَصْبِ {غَيْرَ}، وقرأ ابنُ أبي عَبْلَةَ برفعه، وفيه وجهان:
أظهرُهُمَا: أنّه نعتٌ لـ {بهيمة الأنعام} والمَوْصُوفُ بـ {غير} لا يلزمُ فيه أنْ يكونَ مُمَاثِلًا لما بَعْدها في جنسه تقولُ: مررتُ بِرَجُلٍ غَيْرِ حِمَارٍ، هكذَا قالُوه، وفيه نظر، ولَكِنْ ظاهرُ هذه القراءةِ يَدُلُّ لهم.
والثاني: أنَّهُ نعتٌ للضمير في {يُتلَى}.
قال ابنُ عَطِيَّة: لأنَّ {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد} في المَعْنَى بمنزلةِ غَيْرِ مُسْتَحَلٍّ إذَا كان صَيْدًا، وفيه تكلُّفٌ، والصيدُ في الأصلِ مصدرُ: صَادَ يَصِيدُ ويُصَاد، ويُطْلَقُ على المَصِيدِ، كدِرْهَم ضَرْبِ الأميرِ.
وهو في الآية الكريمةِ يَحْتَملُ الأمرين أي من كونه بَاقِيًا على مَصْدْرِيَّته، كأنَّهٌ قيل: أحِلّ لَكُمْ بهيمَةُ الأنْعَام، غَيْرَ مُحِلّينَ الاصْطِيادَ وَأنْتُم مُحْرِمُونَ، ومَنْ كونِهِ وَاقِعًا مَوْقِعَ المفعول أيْ: غَيْر مُحلِّينَ الشَّيْءَ المصيد وأنتم محرمون.
وقوله: {وَأنْتُمْ حُرُم} مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ في محلِّ نَصْبٍ على الحال، وما هو صاحبُ هذه الحالِ؟
فقال الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ حَال عَنْ {محلّي الصيد}، كأنه قِيلَ: أحْلَلْنَا لكم بعضَ الأنعامِ في حالِ امْتناعِكُم مِنَ الصيد، وأنْتُمُ مُحْرِمُونَ، لِئَلاّ نَتحرَّج عليكم.
قال أبو حَيّان: وقد بَيَّنَا فسادَ هذا القولِ بأنَّ الأنعامَ مُبَاحَةٌ، مُطْلقًا لا بالتَّقْييدِ بهذا الحالِ.
قال شهاب الدين: وهذا الرَّدُ لَيْسَ بشيءٍ؛ لأنَّه إذا أحَلَّ لهم بعضَ الأنعامِ في حالِ امتناعِهِمْ مِنَ الصيد، فأن يحلَّها لهم وهم غير مُحْرِمين بطريق الأوْلَى و{حُرُم} جمع «حَرَام» بمعنى مُحْرم.
قال: [الطويل]
فَقُلْتُ لَهَا: فِيئي إليكِ فإنَّني ** حَرَامٌ وإنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ

أيْ: مُلَبٍّ، وأحْرَمَ إذا دَخَل في الحَرَمِ، أو في الإحْرَامِ.
وقال مَكيُ بنُ أبي طالب: هو في موضع نَصْبٍ على الحال من المضمر في {مُحِلّي}، وهذا هو الصحيحُ.
وأما ما ذكره الزَّمَخْشَرِيُّ، فلا يَظْهَرُ فيه مجيءُ الحالِ من المضاف إليه في غير المواضع المستثناة.
وقرأ يَحْيَى بنُ وثَّاب، وإبراهيم والحسن {حُرْم} بسكون الراء.
وقال أبو الحسن البصريُّ: هي لغة «تَمِيم» يَعْنِي يُسَكِّنون ضمة «فُعُل» جمعًا، نحو: «رُسْل».
قد تقدم كلامُ المعربين في الآية الكريمة. اهـ. باختصار.